غزة- ربع قرن من الألم، الأمل، والقيادة الروحية

المؤلف: كمال أوزتورك10.16.2025
غزة- ربع قرن من الألم، الأمل، والقيادة الروحية

في عام 1999، كانت رحلتي الأولى إلى غزة، حينما كنت صحفيًا يخطو خطواته الأولى في عالم الصحافة. سطّرتُ وقتها عبارةً تختزل الواقع المرير: "هذا هو السجن المفتوح بكل ما تحمله الكلمة من معنى". خلال تلك الزيارة، تشرفت بإجراء مقابلة مع الشيخ أحمد ياسين – رحمه الله –. كانت الأسئلة التي طرحتها آنذاك هي نفسها التي تدور في الأذهان اليوم، والهموم التي تثقل كاهل الفلسطينيين لم تتغير، والألم الذي يعتصر القلوب هو نفسه الذي نشعر به اليوم.

بعد أعوام عديدة، وبالتحديد في عام 2012، قمت بزيارة أخرى إلى غزة. في ذلك الوقت، دخل وزراء خارجية اثنتي عشرة دولة إلى غزة عبر معبر رفح الحدودي مع مصر، وبصفتي صحفيًا، رافقتهم في هذه الزيارة. كانت تلك هي المرة الأولى التي أواجه فيها القصف الإسرائيلي بشكل مباشر. لحظة عبورنا بوابة رفح، سقطت قنبلة مدوية خلفنا مباشرة، وشعرنا بقوة الانفجار في صدورنا، وكأن الأرض ابتلعت كل شيء.

للأسف الشديد، رأيت غزة في ذلك الوقت أكثر بؤسًا وتدهورًا من ذي قبل، وكأنها مدينة تعيش في حقبة زمنية متأخرة بخمسين عامًا عن بقية العالم. كانت عربات الخيول والحمير تجوب الطرق الترابية الوعرة، وتنقل البضائع بصعوبة بالغة. أما الجرحى والمصابون، فكانوا يُنقلون من المنازل التي دمرها القصف الإسرائيلي الغاشم إلى مستشفى الشفاء، الملاذ الأخير.

في ليالي تلك الفترة، كنت أستيقظ فزعًا من نومي؛ بسبب شدة القصف وعنف الانفجارات، وأشعر بالأرض تهتز بقوة تحت قدمي. كانت القنابل تتساقط بكثافة جنونية، لدرجة أن عمارات سكنية بأكملها تحولت إلى رماد و تراب في لحظات معدودة، وتبخر سكانها ولم يتم العثور على جثثهم. كان الناس يبكون بحرقة على تلاشي أجساد أحبائهم، وعلى عدم وجود قبور يزورونها، أكثر من بكائهم على موتهم وفراقهم.

في تلك الأيام، واجهت واقع غزة المرير وجهًا لوجه، بكل ما يحمله من مآسٍ ومعاناة. كان الموت والحياة متجاورين ومتشابكين بشكل مأساوي، والطائرات تحلق في السماء تمطرنا بالموت من الأعلى، والسفن الحربية تقصف من البحر، والصواريخ تنطلق من البر، ولم يكن هناك مكان آمن للهروب أو الاختباء. كان هذا هو الحصار الظالم والمخزي الذي لا مثيل له في العالم، والذي حول غزة إلى سجن كبير.

في عام 2013، زرت غزة مرة أخرى، وكانت أول مرة ألتقي فيها بإسماعيل هنية، رئيس الوزراء آنذاك في حكومة غزة. كنت وقتها رئيسًا لوكالة الأناضول التركية. كنا نستعد لافتتاح مكتب للوكالة في غزة للمرة الأولى، وأجرينا معه مقابلة رسمية بهذه المناسبة، وكان سعيدًا للغاية بهذا الأمر، فقد كان حريص于ن على إيصال صوتهم للعالم. لقد أذهلني بابتسامته الساحرة وسلوكه الودود وصوته الرائع ولغته العربية الفصيحة والمميزة. قمنا بافتتاح مكتبنا في مكان يطلقون عليه لقب أجمل مبنى في غزة، وكان بمثابة منارة أمل.

قال هنية في ذلك اللقاء: "إن هذا المكتب الذي سيُعْلِن صوت فلسطين للعالم هو شرف كبير لنا، ونحن نقدر هذه الخطوة". ولقد عشت شرفًا عظيمًا في اليوم التالي؛ حيث ذهبنا سويًا لأداء صلاة الجمعة، وأمَّ المصلين إسماعيل هنية بنفسه. وفي أثناء الخطبة المؤثرة، قال: "لقد تم افتتاح مكتب وكالة الأناضول في غزة ليُسمِع صوتنا المظلوم للعالم أجمع ويوصل حقيقة ما نعيشه. والشاب الذي أشرف على افتتاح ذلك المكتب موجود بيننا هنا اليوم. سأقدمه لكم"، ثم دعاني للصعود إلى المنبر، ورفع يدي عاليًا ليعرّفني على المصلين. كان هذا شرفًا كبيرًا وموقفًا مؤثرًا لا يُنسى بالنسبة لي.

كان المكتب الذي افتتحناه يقوم بتقديم صور حية ومقاطع فيديو موثقة للعالم أجمع، والتي توضح حجم الدمار والمعاناة الناتجة عن كل هجوم إسرائيلي غاشم. وبعد مرور بضع سنوات، قصفت إسرائيل ذلك المكتب ودمرته بالكامل، ودمرت معه جميع الأجهزة والمعدات التي كانت بداخله، ولكن على الرغم من ذلك، أعيد افتتاحه في مكان آخر، واليوم لا تزال وكالة الأناضول تقوم بدورها الحيوي في نقل صوت فلسطين للعالم من هناك، وإظهار الحقائق الغائبة.

في ذلك اليوم، كان هنية يرتدي لباسه الأبيض الناصع وطاقيته البيضاء، وكانت تلاوته للقرآن الكريم تأسر القلوب وتملأها خشوعًا وإيمانًا. بدا كقائد روحي أكثر من كونه مجرد شخصية سياسية. كانت ابتسامته الصادقة تخاطب القلب مباشرة وتثير في النفس إحساسًا عميقًا بالاحتواء والأمان. كان بحق هو رئيس الوزراء المبتسم لشعب فلسطين المظلوم والصامد.

وفي عام 2024، شاء القدر أن يتقاطع طريقنا مرة أخرى في الدوحة. في السادس عشر من شهر يوليو/تموز، التقينا في مقر إقامته المخصص له هناك. كان قد فقد ثلاثة من أبنائه الأعزاء وأربعة من أحفاده الأبرار، بالإضافة إلى عشرات من أفراد أسرته الكبيرة، كما فقد أكثر من أربعين ألف فلسطيني. كان من المتوقع أن يكون في حالة من الانهيار النفسي واليأس، ولكنه لم يبدُ كذلك أبدًا. لقد رأيتُ شخصًا مفعمًا بالحيوية والنشاط والإصرار، ومشتعلًا بروح النضال والعزيمة والثبات.

كان شخصًا مليئًا بالحيوية والنشاط وروح الكفاح التي لا تنضب. كانت ابتسامته الرائعة ما تزال مرتسمة على وجهه النوراني، تنير الأمل في القلوب. والإحساس بالاحتواء الذي يخلقه كان يسيطر على قلبي مرة أخرى، فعانقته بحرارة شديدة، وعانقته مرة أخرى، وكأنني أستمد منه القوة والصبر.

وبشعره الأبيض الثلجي، ولحيته البيضاء، ووجهه المتألق بالنور، ترك لدي انطباعًا بأنه ليس مجرد شخصية سياسية فحسب، بل هو قائد روحي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقائد فذ وملهم. ولكن عندما بدأ يتحدث عما يحدث في غزة من مآسٍ وجرائم، وعن عدم مبالاة العالم بما يحل بالشعب الفلسطيني، بدأت تتدفق من عينيه مشاعر الألم العميق، واللوم الشديد على هذا الصمت العالمي المريب.

كان قائد الحرب التي وضعت العالم كله في امتحان حقيقي، والتي تُميز بوضوح بين الظالمين والمظلومين، بين من يقف مع الحق ومن يتستر على الباطل. فهو يصرخ بكل الحقائق المؤلمة عبر عينيه الدامعتين، وعلى كتفه عبء قضية كبيرة وعادلة، قضية شعب بأكمله. فجميع الأطفال الأبرياء الذين لقوا حتفهم كانوا في نظره كأبنائه، وجميع الشهداء الأبطال كانوا كإخوته وأحبائه.

بدت آلامه محفورة بعمق في وجهه وجسده وروحه، وكانت آخر جملة قالها لي في ذلك اللقاء: "إن الذين ينتقدون عملياتنا البطولية هم في الواقع أولئك الذين ينتقدوننا في كل موقف. نحن نخوض معركة شرسة من أجل الحرية والكرامة، ونضحي بأرواحنا الطاهرة لتحرير أراضينا المحتلة من براثن الاحتلال الغاشم. أما هم، فلا يفعلون شيئًا سوى الانتقاد والتنظير دون أن يقدموا أي شيء ملموس لإنهاء هذا الاحتلال الظالم. نحن نثق بالله عز وجل، وبإذنه تعالى سنحقق النصر المؤزر. ونحن مستعدون أيضًا للتضحية بأرواحنا فداءً لهذه القضية العادلة".

وبعد مرور خمسة عشر يومًا فقط من هذه الكلمات المؤثرة، ضحى بحياته كما وعد، والتقى بأبنائه وأحفاده وجموع الشهداء من أبناء شعبه الفلسطيني الأبي، في جنات النعيم.

لقد مات وهو يعيش في المنفى بعيدًا عن وطنه، وصُلّي عليه صلاة الجنازة في المنفى، ودُفن جثمانه الطاهر في المنفى. حتى إنهم لم يسمحوا بنقل جنازته إلى غزة لكي يُدفن في ترابها الطاهر. على كل حال، لقد دفناه في قلوبنا، وسيبقى ذكره خالدًا في ذاكرتنا إلى الأبد.

لقد تابعتُ قصة فلسطين عن كثب لما يقرب من خمسة وعشرين عامًا، وكتبتُ عنها بإسهاب، وتحدثتُ مع قادتها ومسؤوليها. بدءًا من الشيخ أحمد ياسين، وصولًا إلى إسماعيل هنية، وقد لقي الرجلان ربهما شهيدين، مدافعين عن الحق والعدالة.

كمواطن عربي، وكمسلم مؤمن، وكصحفي ملتزم بقضايا أمته، تراكمت في داخلي أوجاع وآلام مختلفة على مرّ هذه السنوات الطويلة. ولكنني أؤمن يقينًا بأن جميع آلامي وأوجاعي لا تعادل شيئًا مقارنةً بما يعانيه إخواننا الفلسطينيون من ظلم وقهر ومعاناة يومية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة